نجود يوسف
العنوسة أو تأخر الزواج هي “الداء” الذي يعلم الجميع أسبابه ونتائجه وتوصيفه وتشخصيه على اختلاف الحقب الزمنية، كما أن الجميع بات أيضاً يحفظ طرق علاجه عن ظهر قلب، ويكون البعض – حتى المصابين به – بارعا في تنظيم وصفات علاجية حقيقية له بعيداً عن الحلول الإسعافية التي تنتجها بعض الجهات الحكومية.
حتى أن الكثير من الجهات المعنية تضيع بين شد هنا وجذب هناك، منها من ترفض الاعتراف بهذه المشكلة الاجتماعية متفائلة ربما بجيل “مابعد الأزمة” في سوريا، بينما تصر جهات أخرى على ترتيب أولويات اقتصادية واجتماعية أكثر أهمية من “العنوسة” برأيها، لتكون هذه الأخيرة خارج التصنيف بالنسبة لها، “كمكتب الإحصاء” على سبيل المثال لا الحصر.
في المحصلة كان لابد لنا من محاولة الدخول في كلاسيكيات هذا الموضوع بدءاً من إحصائياته وصولاً إلى أسبابه وطرق علاجه.
العنوسة تصيب ربع السوريات
لا يوجد أي إحصائية حقيقية ودقيقة لدى أية جهة تحدد نسبة “العنوسة” في سوريا، بل إن المكتب المركزي للإحصاء أكد أنه لا يقوم بمسح إحصائي تحت هذا المسمى، إنما يقوم بإحصاء عدد الفتيات ضمن فئات عمرية محددة، وتصنيفهن بحسب الحالة الاجتماعية (عزباء، متزوجة، مطلقة، أرملة)، كما يتم التعامل مع الذكور بنفس الآلية المذكورة.
ووفق آخر مسح رسمي لعام 2017، فإن نسبة الإناث اللاتي لم يسبق لهن الزواج من الفئة العمرية المتراوحة بين سن (30-34) كانت 19.7%، أما نسبة الإناث اللاتي لم يسبق لهن الزواج من الفئة العمرية المتراوحة بين سن (35-39) فكانت 13.8%، فيما تكون النسبة الكلية للفئتين هي 28.77% أي أكثر من الربع..
أما عن نسبة الـ 70% التي تداولتها عناوين الأخبار عن لسان القاضي الشرعي الأول في دمشق محمود المعراوي فهي بحسب ما أوضح الأخير ل”هاشتاغ سوريا” مبنية على تقارير أممية وليست من سجلاته.
وأضاف المعراوي أن هذه الإحصائية لا تشمل الإناث اللاتي لم يسبق لهن الزواج فقط، بل تشمل الأرامل والمطلقات أيضاً من مختلف الفئات العمرية.
الاختصاصية الاجتماعية الدكتورة فاتن نظام أفادت “هاشتاغ سوريا” أنه وبحسب إحصائيات محلية لعام 2018، فإن أعلى نسبة زواج للذكور من حملة الشهادات المتوسطة هي 39%، فيما لم تتجاوز نسبة زواج الذكور من حملة الشهادات الجامعية العليا 3%، أما نسبة زواج الإناث من حملة الشهادات المتوسطة فهي 37%، ولم تتجاوز نسبة زواج حاملات الشهادات الجامعية العليا 2%
أسباب حقيقية: مافي عرسان
بحسب استطلاع رأي للشارع السوري فإن السبب الرئيسي لظاهرة “العنوسة” هو تناقص عدد الذكور مقارنة بالإناث، حيث أن التعثر بحجر العجز المادي والأمني والخوف من الالتحاق بالخدمة العسكرية في ظل الحرب دفع الكثير من الشباب إلى العزوف عن الزواج خوفاً من خلق أسر مشتتة، كما أن استدعاء أعداد هائلة من الشباب -من الفئة العمرية المناسبة للزواج- إلى الخدمة العسكرية الاحتياطية مفتوحة المدى، واستشهاد عدد كبير منهم في جبهات القتال كان لها انعكاس واضح على تأخر -الفئة العمرية المناسبة لهؤلاء- من الإناث بالزواج.
ثقافات دخيلة
ويرى الاستشاري في التطوير الشخصي الدكتور أحمد خير السعدي أن هناك أسباباً إضافية لتزايد نسبة العنوسة، منها أسباب ثقافية كالتأثر بثقافات دخيلة وصلت إلينا من خلال الإعلام والمسلسلات التركية و المكسيكية، مثل المساكنة، والعلاقات غير الشرعية التي تمكن الشباب -من الجنسين- من التفريغ العاطفي دون خسارة هامش استقلاليتهم و حريتهم الشخصية وبدون تحمّل أي نوع من المسؤولية تجاه الشريك.
فيما ربطت الاختصاصية الاجتماعية الدكتورة فاتن نظام بين الإقبال على الزواج والدرجة العلمية لدى الجنسين بعلاقة عكسية: “تؤجل الكثير من الفتيات فكرة الزواج إلى حين الانتهاء من الدراسات العليا كالماجستير والدكتوراه، وبعد أن تنهي دراستها ترفض الزواج ممن هو أقل منها في التعليم، بسبب تعاليها، أو خوفها من ظلمه لها، وتعامله معها بعنف ليقتل فيها الإحساس بالتفوق والنجاح، كما أن الشباب يتجنبون الفتاة المتعلمة خوفاً من ذات السبب وهو تعاليها عليهم، دون الانتباه إلى الدور الإيجابي للأم أو الزوجة المتعلمة والمثقفة في بناء أسرة متماسكة ومجتمع واعي ومثقف”.
فارس الأحلام
من جهتها، توضح الاختصاصية النفسية الدكتورة غالية اسعيّد في حديثها ل”هاشتاغ سوريا” أن الفتاة لم تعد اليوم تحلم بالفارس الذي يحملها على الحصان الأبيض، ولم تعد تهتم بقوة شخصية الرجل، إنما أصبح جل اهتمامها منصباً على قدرته على توفير حياة كريمة لها، بالإضافة إلى عوائق أخرى من أهمها إصرار الفتاة على استكمال دراستها واستبعاد فكرة الزواج أثناء الدراسة، إلى جانب مغالاة أولياء الأمور في المهر والتكاليف المصاحبة التي تجلب التعاسة إلى بيت ابنتهم إن تزوجت، بجانب انتظار فارس أحلام كامل المواصفات من قبل الفتاة ورفض المتقدمين لها، والتشدد في اختيار زوج الفتاة من قبل الأهل، وعدم قبول الفتاة بالمتزوج من امرأة أخرى.
آثار نفسية
أكدت اسعيّد أن نسبة كبيرة من الإناث المتأخرات بالزواج لا يتمتعن بحياة طبيعية، على الرغم من نجاح بعضهن في التعويض على حالتهن من خلال عمليات التسامي (الإعلاء) وذلك بالنجاح في العمل أو النجاح في القيام بأعمال ذات قيمة اجتماعية عالية أو الإبداع الأدبي أو الفني أو اللجوء إلى الزهد والحياة الروحية أو لجوء بعضهن إلى “الاسترجال” وبعضهن إلى الاستعلاء (ربما عقاباً للأهل وللمجتمع ككل على إهمالهم).
وأضافت أنهن غالباً يعانين الوحدة على الرغم من كثرة الناس حولهن في بعض الأحيان، والغربة والإحساس بالدونية على الرغم من محاولاتهن إنكار ذلك أو إخفائه أو تكوين رد فعل عكسي له، ناهيك عن الفراغ النفسي، والحرمان العاطفي أو الجنسي أو كليهما، والأهم هو الحرمان من الأمومة الذي ربما تستعيض عنها بالاندماج مع أطفال الأسرة، ولكن ذلك غير مشبع لهذه الغريزة الهامة للمرأة السوية، ومعاناة الحرمان من الدفء الأسري (ربما تستعيض عنه مؤقتا بدفء الأسرة الكبيرة ولكنه زائل أو مهدد بالزوال لا محالة).
انعكاسات خطرة
وتحذر اسعيّد من غياب وسائل كافية للتعويض لدى الأنثى، فهي ربما تكون عرضة للقلق أو الاكتئاب أو لهما معاً، أو للمعاناة من اضطرابات جسدية كثيرة سببها الحالة النفسية التي لا يعبر عنها بشكل مباشر، والبعض قد يخرج من هذه الأزمة بطرق إيجابية، لكن البعض قد يخرج منها بطرق سلبية كأن يميلن للعنف وربما التورط في الجرائم نظرا لتراكم الغضب بداخلهم من نظرة المجتمع وظلمه لهن، وبعضهن ربما تلجأن للغواية العاطفية أو الجنسية كنوع من رد الاعتبار أو إثبات الذات أو الانتقام من المجتمع، وقد ينزلق بعضهن إلى احتراف البغاء في ظروف معينة خاصة حين اليأس من الزواج نهائيا.ً
في الحلول
يشير الدكتور أحمد خير السعدي إلى أنه من الضروري تقديم قروض شبابية تدعم الشباب بإيجاد مساكن مناسبة وتوفير فرص عمل جيدة تؤمن لهم العيش السليم بالتعاون والتنسيق مع وزارة الإسكان .
يضاف لما سبق، التركيز على مخاطر العزوف عن الزواج عبر برامح توعوية تكون مسؤولة عنها الحكومة بدءاً من وزارات الإعلام والشؤون الاجتماعية والتنمية الإدارية ووزارة الأوقاف والثقافة، إضافة إلى ضرورة وجود إضاءات في المناهج المدرسية حول الزواج وأهميته في بناء الأسرة السليمة مجتمعياً، لنشر ثقافة الزواج وأهميتها لتوفير الكثير من الاحتياجات الفطرية للنفس السوية بشكل سوي يتوافق مع القيم الدينية والأخلاقية والأعراف السليمة.
كما أن للأحزاب الشبابية الجديدة دورها الفعال في هذا الموضوع، فيما لابد من العمل على دراسة قانون يحد من غلاء المهور ومناقشتها في مجلس الشعب لكي يتحول إلى قانون.